قد يكون الملك محمد السادس أُصيب بخيبة أمل بمجرّد ظهور نتائج الانتخابات المهنية، التي أعادت نفس الوجوه السابقة إلى نفس الغرف المهنية ولم تُبدّل تبديلا.
نتائج مخيبة للآمال، التي عقدها الملك محمد السادس على الأحزاب، كي تقوم بالتغيير الذي ما فتئ رئيس الدولة ينادي به، عبر ضخّ دماء جديدة لتجديد النخبة السياسية والتخلص من تلك الكائنات الانتخابية العتيقة بوجوهها المكرورة والرتيبة، التي سئِم الملك والشعب من هيمنتها وإفسادها للمشهد السياسي المغربي طيلة اثنين وعشرين سنة من حكمه.
هذه الانتخابات المهنية، التي تسبق الانتخابات العامة بأسابيع قليلة، أظهر فيها رؤساء الأحزاب مقاومة شرسة لكل التوجيهات الملكية الواردة في عدة خطابات سامية، في عملية باتت شبيهة بشد الحبل مع الجالس على العرش، بسبب تزكية نفس النخبة السياسية “الفاسدة”، التي سترهن المغرب لخمس سنوات أخرى، تنضاف إلى السنوات الاثنين والعشرين الماضية، التي أفسدت فيها كل شيءٍ، بسبب مقاومتها لكل مخططات ومشاريع التقدم والتنمية والدمقرطة، بشهادة الملك نفسه.
الخطير اليوم هو أنه بمجرد مرور يومين أو ثلاثة على صدور هذه النتائج، راحت هذه الأحزاب تُصدر بلاغات تهدد فيها منتخبيها المتمردين على قرارات التحالفات، التي اتخذها أمناؤهم العامون بخصوص رئاسة وعضوية مكاتب مختلف الغرف المهنية، بالطرد بسبب عدم انضباطهم للتوجيهات وانقلابهم على تلك التحالفات، التي يرى هؤلاء المنتخبون أنها لا تخدم مصالحهم الخاصة، خصوصا أنهم يدّعون أنهم فازوا بهذه المقاعد بـ”ذراعهم”، أي بمجهوداتهم ووسائلهم الخاصة، وأنهم بدورهم عقدوا تحالفات قبلية في ما بينهم كأعضاء بعيدا عن أحزابهم كما دأبوا على ذلك في كل الانتخابات السابقة.
ولهذا، ولضمان تحقيق خُططهم المدبّرة، فإنهم سيتجهون نحو ممارسة عملية اختطاف العدد الكافي من الأعضاء ليشكلوا أغلبية تمكنهم من توزيع “الكعكة” في استقلالية تامة عن المؤسسات الدستورية، ودونما احترام للقوانين التنظيمية.
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، أستحضر، هنا، أن صديقتي فاطمة الزهراء المنصوري، التي يُحاول البعض أن يُشبّهها، اليوم، بـ”النسخة النسائية” لإلياس العماري “Ilyas version femme”، رغم أنها ليست كذلك، فقد سبق أن ذاقت، بدورها، الأمرّين من جراء نفس الشرذمة الفاسدة، التي تصدت لمنعها من تقلُّد منصب عمدة مدينة مراكش، بعدما حصلت على حكم ابتدائي ببطلان فوزها في الانتخابات الجماعية بسبب تلاعبات في الورقة الفريدة.
وبعد فوزها، اضطرت صاحبتنا فاطمة الزهراء المنصوري، رئيسة برلمان البام اليوم، بدورها، إلى “اختطاف” الأغلبية، بمن فيهم منتخبون من حزب العدالة والتنمية، وإخفائهم بعيدا عن مدينة مراكش، وبالضبط بفندق “ديوان” في الدارالبيضاء، واحتفظت بهم لغاية يوم التصويت، فعادت بهم إلى مدينة مراكش لتحصل بهم على منصب العمدة مقابل حصولهم على نيابات وعلى رئاسة لجان.
وإذا كانت قد حصلت على هذا المنصب وهي ما تزال حديثة العهد بالسياسة ولا تعرف شيئًا ولا يعرفها أحد، فإن رجل الثقة آنذاك الذي كان يُفاوض الأحزاب وبفضله أصبحت أول امرأة عمدةً في تاريخ المغرب، هو حميد نرجس الذي أسس مع الهمة الحركة والحزب معًا، وبعدها انقلبت مع إلياس على الرجل…
مناسبة هذا الحكي ليس فقط الكلام عن عدم انضباط المنتخبين، ولكن لأحكي واقعة فريدة ظلت في الكواليس، وهي أن غريم فاطمة الزهراء المنصوري وقتها المسمى “ولد العروسية” اكتشف مكان اختباء الأغلبية، فجاء إلى الدارالبيضاء، ووقف أمام الفندق، الذي كانت تنزل فيه المنصوري وأغلبيتها، وبدأ بمساومة هذه الأغلبية، وفي نفس الوقت يهددها ببندقية جاء بها لـ”إنهاء الأمر” كما كان يقول، مما استوجب تدخل الأمن وحجز البندقية و”وسائل المساومة”.
نجحت فاطمة الزهراء المنصوري، بهذا الأسلوب، في الظفر بمقعد العمودية، في الوقت الذي فشل فؤاد عالي الهمة، الذي نزل بكل ثقله لمدينة الدارالبيضاء، للإشراف شخصيًا على تنفيذ اتفاق تحالف البام مع بعض الأحزاب لتشكيل مكتب المجلس الجماعي للدارالبيضاء وانتخاب عمدته وهياكله…
الهمة، الذي كان همه الأساسي، رغم فوز البام بالمرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية، هو استمرار العمدة ساجد بمقعده للولاية الثانية حتى لا يتحمل الهمة مسؤولية الدارالبيضاء منذ الوهلة الأولى، واكتفاء البام بالنيابة، إلاّ أن المنتخبين تمرّدوا عليه في باقي الاتفاقات، وصوتوا عكسها تماما…
فؤاد عالي الهمة، عرّاب البام وصديق الملك، كان يعرف أن هناك حزبا خفيا يسمى: “حزب الخبَّاطة”، حزب سري، يتشكّل من هذا النوع من منتخبين جعلوا من السياسة حرفة، يرفضون الانضباط لقرارات الأحزاب التي ينتمون إليها، ويمتهنون الترحال السياسي.
فالهمة فهم هذا من قبل فأعطى للأحزاب السياسية الدرس الأول بهؤلاء بمجرد حصوله على مقعد في البرلمان كلامنتمٍ، لقد كان حزب الخبّاطة وراء هجر عشرات البرلمانيين من أحزابهم، وهم من شكّل منهم الهمة فريقًا برلمانيا قويا دون أن يكون له حزب.
وهو الحزب نفسه الذي صوّت لفائدة حزب البام ليحصل على رئاسة مجلس المستشارين رغماً عن أنف الأغلبية الحكومية.
مثل هذه الدروس السياسية وغيرها كثير كانت وراء بعث فؤاد عالي الهمة لخوض غمار السياسة من تحت.
وحتى لا نغرق في التحليل والوقائع، نعود إلى الانتخابات المهنية، التي جرت الأسبوع الماضي، لنجد أنها عرفت الكثير من الخروقات، لوائح تسجيل غير مُحيّنة مازالت تتضمن أسماء لموتى، أو أسماء لأشخاص ترشحوا دون توفر الشروط القانونية كصاحب شركة وهمية، أو صاحب شركة سبق أن أعلنت إفلاسها، أو شركة لم تمارس أكثر من ثلاث سنوات، أو أشخاص تحصّلوا على شواهد عمل مزورة، بل ونجد فيها حتى من هو مسجل باللوائح المهنية وهو دون عمل يُذكر، ناهيك عن استعمال المال، الذي دفع خمسة أحزاب إلى إصدار بيان سياسي ضد حزب التجمع الوطني للأحرار دون تسميته.
لكن كل هذا يدخل في السر المهني لهؤلاء المنتمين إلى “حزب الخبّاطة”!
هذا مؤشر على أن الانتخابات العامة الجماعية والجهوية وحتى التشريعية ستدخل في نفس الخانة، خصوصا أن جل الأحزاب اعتمدت، بانتهازية صريحة، على “أيًّ كان” فقط من يستطيع، بكل السبل، الفوز بالمقعد لتصدّر الانتخابات، والوصول إلى نتيجة واحدة هي الاستوزار…
قيادات كرتونية جعلت همّها الوحيد الأوحد هو الحصول على حقيبة وزارية، وهو ما أصبحت تصرّح به صراحة صباح مساء “بلا حيا بلا حشمة”.
ولنكن صرحاء بدورنا ونقولها، بصوت عال، إن التاريخ الانتخابي لأحزاب مغربية أضحى مرادفا لتاريخ الفساد والإفساد، تاريخ السعي وراء وجوه مكرورة وفاسدة بقوة المال، وبالمحاباة والزبونية، وبالريع الحزبي والولاءات، لكي تُسلّمها القياداتُ الحزبية المستفيدة و”المتمعّشة” مفاتيحَ الغرف المهنية اليوم، ثم مفاتيحَ تسيير المدن والأقاليم والجهات غدا، وبعدها مفاتيحَ الحقائب والوزارات، ولا يهم أن تعيث هذه الوجوه في المغرب فسادا، الوجوه التي لم يعد يثق فيها لا الملك ولا الشعب، إلى الدرجة التي دفعت رئيس الدولة إلى أن يطرح، على لسان المواطن المغربي، سؤالا إنكاريا واستنكاريا: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟!
والحصيلة: فشل الأحزاب، سقوط الانتخابات، انكسار إرادة التقدم، وانهزام مسيرة الدمقرطة، والفائز الوحيد: الفساد بأذرعه الضاربة: “حزب الخبّاطة”!
ملحوظة: لنا عودة في المقالة 3/3 إلى بعض الذين يوهمون الناس أن أحدهم “من فوق” سلمهم مُسبقّا حقائب وزارية قبل الانتخابات التشريعية المقبلة “گاع”! وآخرين يوهمون المنتخبين أن “الفوق” طلب من شخص الترشح كما حصل في مدينة الحسيمة منذ أسبوع فقط.
مراد بورجى